متحف السينما الجزائرية [ خطوة باتساع الأزرق: رحلة إلى الجزائر ]



أثناء التجول في شوارع وسط المدينة لفتت انتباهي الكلمات المكتوبة أعلى مدخل عمارة قديم ومتهالك أعاد إلى ذاكرتي صورة مداخل العمائر في أحياء الإسكندرية والقاهرة القديمتين، بخط عربي متهالك كتب على واجهة البناء :(متحف السينما الجزائرية)، لم أتمكن من مقاومة فضولي، طلبت من زوجتي أن تنتظرني قليلاً حتى أتبين الأمر، نزلت عدة درجات متهالكة يعلوها التراب، مدخل بناية واسع عُلقت على جدرانه بعض الصور الفوتوغرافية القديمة، لقطات من أفلام سينمائية، وبورتريهات لرموز السينما، بالكاد تبين لي باب خشبي صغير يصعد بدرجة عالية في اليسار، هدوء تام، وغبار، يبدو المكان مهجوراً منذ سنوات، مددت رأسي داخل الباب الصغير، وجدته يفضي إلى غرفة مكتب بها بعض الأرفف الخشبية القديمة الخالية، وطاولة اجتماعات خشبية متهالكة، وفي الطرف القصي من الغرفة يجلس شاب في نهاية العقد الثالث من عمره، يرتدي سترة من القماش، منهمك في الكتابة، يلفه الصمت ودخان سيجارته المشتعلة بين أصابعه.
تعارفنا وانطلقنا نثرثر قليلاً حول المكان وتداعياته، هو "جلالي عودية"، مسؤول قاعة متحف السينما الذي نجلس بداخله الآن، والذي تأسس في العام 1964، ويحتوي على كنز من الأفلام السينمائية، 10 آلاف نسخة فيلم، عدد ضخم وكبير ومهم، تم تصنيفها على أساس جغرافي: الاتحاد السوفيتي السابق، والدول الاشتراكية، السينما الفرنسية، وكذلك الأفلام الأفريقية وبقية دول العالم، وكذلك السينما العربية، ويعد المتحف بعد ما تملكه القاهرة واحدا من أكبر المتاحف التي تملك أفلاماً عربية، ، بين الروائي والوثائقي وغيرها من أفلام، بالإضافة إلى مجموعات ضخمة من الصور التذكارية للسينمائيين الكبار، يوسف شاهين الذي يرتاد هذه القاعة كلما زار الجزائر، هنري بركات، عزت العلايلي وعدد ضخم من الممثلين كان المتحف محطتهم الأولى في الجزائر. ويمتلك المتحف حق الملكية الكاملة في الأفلام التي يضمها، كما يضم واحدة من النسخ التي لها حقوق ملكية من فيلم "المومياء" للمخرج المصري شادي عبد السلام.
المتحف تم إنشاؤه بعد استقلال الجزائر كفكرة تبلورت في ذهن المثقف الجزائري أحمد حسين، للحفاظ على هذه الكنوز بمساعدة هومري لونجلوا، الذي كان مديراً لمتحف السينما الفرنسية وقتها، وابتداء من 1964 كان لهذه القاعة نشاط مؤثر وكبير على المستوى الدولي، وكان العديد من المخرجين الكبار يسعون للتواصل مع القاعة، وحظيت بجمهور عريض من أهل الجزائر، لدرجة أنها باتت مختبراً لقياس نجاح الفيلم من عدمه، فإذا حكم جمهور متحف السينما على الفيلم بالنجاح ، كتب له النجاح.
بعد مرور أكثر من 10 سنوات من الرعب والإرهاب، افتقدت السينما الجزائرية جمهورها، الذي فقد عادة الذهاب إلى السينما، من ضمن العادات التي وأدها الخوف والإرهاب، خاصة وأن واحدة من القنابل الأولى التي انفجرت في العاصمة الجزائرية استهدفت هذه القاعة في العام 1994م، ورغم ذلك فقد استمرت القاعة في العمل، إلا أن الناس تراجعت وخافت من ارتياد قاعات العرض، وحدث انقطاع تام بين الجمهور والسينما.
في العام 1987م تم حل الجهاز المختص بصناعة السينما الجزائرية وتسويقها، بغرض إعادة تشكيله، ولكن لم تسمح الظروف بذلك، منذ ذلك التاريخ لم يعد هناك إنتاج سينمائي، والأفلام القليلة التي تم إنتاجها بعد ذلك تشبه المعجزات، المخرجون هربوا إلى الخارج، ومن ظل منهم صار عاطلاً عن العمل، بعد ذلك قضت الحالة السياسية وظهور الإرهاب على البقية الباقية من صناعة السينما، حوالي 30 فيلما منذ ذلك التاريخ تم إنتاجهم وعبر إنتاج مشترك مع فرنسا بتدبير خاص من المخرجين، لأن فرنسا لديها سياسة في هذا الاتجاه.
**
في الأعوام الأخيرة منذ حوالي 3 سنوات بدأ الجو يتحول تدريجياً إلى صورة لائقة، بدأت أفلام جميلة تظهر: فيلم (رشيدة) للمخرجة يمينة بشير شويخ، وهو يحكي عن وقائع الإرهاب بطريقة ممتازة، فيلم روائي طويل، في العام 2004 بمناسبة سنة الجزائر في فرنسا تم إنجاز 11 فيلماً لمجموعة من المخرجين الجزائريين من كافة الأجيال، كان التمويل من الدولة الجزائرية بمساعدة الدولة الفرنسية، من أبرز هذه الأفلام فيلم (سي محند ومحند) وهو يحكي قصة شاعر قبائلي أمازيغي عظيم، وهو أول فيلم يتناول قصة حياته باللغة الأمازيغية، وفيلم (المشبوهين) لكمال الدهان المقتبس عن رواية طاهر جاعوط الذي قتله الإرهابيون في 1994، وهو أول صحافي جزائري يتعرض للاغتيال. من الأفلام أيضاً فيلم (المنارة) للمخرج بلقاسم حجاج، وهو فيلم رائع للغاية، وفيلم (ميمونة) لبشير درايس.
تطرق النقاش إلى الحديث حول غياب الفيلم الجزائري عن العالم العربي، أكد عودية أن الأفلام الجزائرية معروفة على المستوى العالمي، معدداً بعض الأفلام التي نالت جوائز هامة، منها (وقائع سنوات الجمر) للمخرج الأخضر حمينة، الذي نال جائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان 1975، فيلم (معركة الجزائر) لجيلو بونت كورفو، الذي نال جائزة الأسد الذهبي في إيطاليا، والعديد من الجوائز الأخرى، وفيلم (القلعة) لمحمد شويخ، الذي نال جائزة قرطاج، والعديد من الأفلام الأخرى. وأضاف: المدهش أنها غير معروفة في العالم العربي، هذه سياسات تخص الدول العربية، ومن الأولى بالدول العربية أن تشجع الإنتاج المشترك، ولا أظن أن اللهجة لها دخل في هذا الأمر، فهي لا تحول أبدا دون انتشار فيلم، هي قضية عدم توزيع الفيلم، لأن اللهجة في السينما بصرية قبل كل شيء، نشاهد الأفلام الأمريكية باللغة الإنجليزية، والمشكلة تكمن في غياب سياسات في الوطن العربي لتشجيع وجود الأعمال السينمائية العربية.
وحول الوضع بعد الحالة التي تبدو مستقرة التي تمر بها الجزائر الآن، قال عودية: ألاحظ ظهور جيل سينمائي جديد، أغلبهم من الشباب، معظمهم يعملون بجهودهم الخاصة، بطريقة (دَبَّر راسك) والعجيب أنهم استطاعوا إنتاج أفلام جيدة منها أفلام تم عرضها في القناة الفرنسية، ما زالوا يبنون أسماءهم إلا أنهم واعدون بمستقبل باهر، وقال: أتمنى أن تظهر جهة رسمية لتتولى الإنفاق على صناعة السينما. ألا توجد جهة معنية بهذا الأمر؟ سألته مبدياً دهشتي، فقال إن وزارة الثقافة تساعد في ذلك، لكنها لا تستطيع الوفاء بإنتاج جميع الأفلام، ومن المعروف في تجارب العالم الناجحة أن السينما يجب أن تمول نفسها ذاتياً، الأفلام تمول الأفلام، وهذا الأمر يحتاج إلى سوق نشيط به العديد من قاعات العرض، مثلاً 50 قاعة على الأقل في الجزائر العاصمة، وأن يتم استقطاع نسبة من كل تذكرة تخصص لتمويل الإنتاج، وهو أمر كان يحدث في السابق، ومن خلاله تم إنتاج العديد من الأفلام، ولكن بعد حل المركز كما قلت لك، توقفت هذه العملية، وميزانية وزارة الثقافة لا تستطيع أن تتحمل هذا العبء. هناك الآن أقل من 20 سينما في الجزائر بعد أن كان عددها جاوز السبعين، ومعظم الأفلام المعروضة فيها تجارية عادية، ومتحف السينما هو الوحيد المهتم بعرض الأفلام الفنية، أفلام المؤلف، وكذلك أفلام تاريخ السينما، بالإضافة إلى هذا الرصيد الهام من الأفلام العالمية، نعمل كذلك على عرض الأفلام الجديدة للمخرجين الجزائريين بهدف إتاحة الفرصة أمامهم لكي يشاهد الجمهور إنتاجهم.