مدينة النخيل والقلاع [ مائة موقع في الإمارات ]



لا تدهش لكثرة النخيل في منطقة "العين" فهي، أصلاً، أرض نخيل وأفلاج، كما أنها منطقة القلاع والحصون. وحيثما يوجد النخيل والمياه، وجها الحياة النضران في محيط مقفر، تكون القلاع والحصون.
يمدّنا تاريخ "واحة البريمي" التي تقع في قلبها "العين" بمادة غزيرة عن صراعات طويلة، ومريرة جرت حولها لم تنته، رسمياً، إلاّ قبل نحو ثلاثين عاماً، فهي منطقة نفوذ وتداخل بين القوى الثلاث الرئيسية في الجوار: عُمان التي كانت تبسط اسمها، تاريخياً، على كل الساحل وأجزاء واسعة من الداخل، والسعوديون الذين تمددوا خارج هضبتهم "نجد" وجردوا السيف مصحوباً بتعاليم محمد بن عبد الوهاب المتشددة، على جوارهم، وقبيلة "بني ياس" التي أخذت تظهر كقوة رئيسية في الساحل كما هو شأنها في "صحراء الظفرة".
انتهي الأمر بـ "واحة البريمي" التي كانت تضم تسع قرى إلى التوزع على كيانين سياسيين: عُمان التي انتزعت "البريمي" نفسها وقريتين أخريين من السعوديين، بحكم دولي، وإمارة أبوظبي التي اضطرت إلى التنازل عن "خور العديد" للسعودية مقابل اعترافها بـ "دولة الإمارات العربية المتحدة" والاحتفاظ بـ "العين" وقراها، كما أسلفنا القول.
طبيعي في منطقة متنازع عليها وذات تاريخ متشابك إلى هذا الحد، أن تكثر القلاع والحصون ذات الأغراض الدفاعية. شيوخ "بني ياس" أقاموا عدداً من الحصون في هذا الإقليم الذي أخضعوا جزءاً منه لمشيختهم وكذلك فعل مشايخ القبائل الأخرى التي تحالفت مع "بني ياس" تاريخياً، أو طلبت حمايتهم في لحظة معينة من تاريخ الصراع على الواحة مثل "الظواهر" و"بني نعيم"، كما فعل العمانيون، على الطرف الآخر من هذه المنطقة المتداخلة الحدود، الشيء نفسه.
وفي الوقت الذي لا نجد في أبوظبي ـ الجزيرة سوى ثلاثة حصون وأبراج أهمها "قصر الحصن"، فإن "العين" تضم نحو أربعة عشر حصنا وقلعة ومربعة، هذا عدا عشرات البيوت القديمة التي تتخذ أشكال قلاع وحصون صغيرة تعود إلى "الظواهر" أو "بني هلال" أو "الدرامكة".. وغيرهم من وجهاء قبائل المنطقة.
هذا الفارق بين حصون عاصمة الإمارة وقرى "العين" يعني أمرين: الأول أن أبوظبي لم تكن تحتاج، إلى قلاع وحصون لحمايتها لأنها لم تكن مكانا مطموعاً فيه من قبل القوى المتنافسة على الساحل، فضلا عن كونها تستمد حمايتها من موقعها كجزيرة.
ـ الثاني، أن "العين" هي المكان الجدير بالحماية لتوافرها على أهم ثروات ذلك الأوان: الماء والزراعة، وقد مكَّن الوضع المادي المتقدم لوجهاء هذه الواحة، قياساً لما كان عليه الأمر في جزيرة أبوظبي الفقيرة آنذاك، من بناء قلاع وحصون وبيوت حجرية فيما كانت عشش السعف هي الطابع السائد لمساكن المواطنين العاديين في أبوظبي الذين يعمل معظهم بالصيد والغوص.
ولا تنافس منطقة العين في عدد الحصون والقلاع إلاّ عواصم المشيخات التي انخرطت في صراعات الساحل الطويلة مثل الشارقة ورأس الخيمة.. ولنتذكر أن الثغرين الأخيرين هما معقل قبيلة "القواسم"، القوة العربية الضاربة، على ساحل عمان (أو الساحل المتصالح، كما سماه الإنكليز) لأكثر من قرنين. حتى "ليوا"، الواحة الأكبر في صحراء "الظفرة" والموطن الأصلي لقبيلة "بني ياس" لا تضم أكثر من ثماني قلاع أقل ضخامة ومهابة من قلاع "العين".
هكذا كنا نرى الحصون والقلاع موزعة على القرى التي كانت تتشكل منها منطقة "العين" حتى الفترة التي سبقت استخراج النفط، وأصبحت فيما بعد جزءا لا يتجزأ من المدينة. كان أكبر الحصون التي رأيناها في جولتنا "حصن الجاهلي" (أو الياهلي.. باللفظ المحلي)، وهو أكبر من "حصن المويجعي" الذي كان مقر إقامة الشيخ زايد، وأكثر تفننا في طراز عمارته التي تنحو منحى دفاعياً صرفاً، فيما لـ "حصن المويجعي" طبيعة سكنية وإدارية.
بني "حصن الجاهلي" المسيج بسور كبير تقطعه من ثلاث زوايا أبراج دائرية، أكبرها مكون من ثلاث طبقات، الشيخ زايد بن خليفة (زايد الكبير) في حدود العام 1898. طبعا، الحصن في صورته الحالية خضع لترميم شامل، شأنه شأن معظم الحصون والقلاع التي ترتبط بتواريخ حاسمة أو شخصيات أساسية في نشأة الكيان الظبياني.
على مدخل "حصن الجاهلي" ثمة بيتان من الشعر يتحدثان عن باني الحصن وفي وسط البيتين هناك تاريخ البناء بالسنة الهجرية: 1316 (1898م).
وفي وسط مدينة "العين" ذات البناء الأفقي التي لا تتجاوز عمائرها، وفق تخطيط منهجي للمدينة، أربعة أو خمسة طوابق، هناك "متحف العين" الذي كان في الأصل حصناً كبيراً بناه والد الشيخ زايد بن سلطان عام 1910 وذلك قبل أن يصبح حاكما لمشيخة أبوظبي لفترة وجيزة (1922 ـ 1926).. وكان يسمى "الحصن الشرقي".
وللحصن ـ المتحف ثلاثة أبراج دائرية كبيرة، تعلوها مغازل الرمي، وفتحات للرماية، ومثل "حصن الجاهلي"، هناك على بوابته الخشبية السميكة التي تتخللها مسامير حديدية مدبدبة بيتان من الشعر يسميان بانيه الذي "لاح نجم سعده" ويتنبآن بمجده الباقي على "رغم المعاند"، لكن المفارقة أن حكم سلطان بن زايد لمشيخة أبوظبي لم يدم سوى أربع سنين على عكس والده "زايد الكبير" الذي حكم بلاده نحو 54 عاما أو ولديه شخبوط (1928 ـ 1966) وزايد (1966 ـ 2004) 1.
1 : أمجد ناصر، الخروج من ليوا: رحلة في ماضي أبوظبي وحاضرها تليها ديار الشحوح: الرحلة الثانية، أبوظبي، دار السويدي للنشر، تحت الطبع.