المدرسة الفيثاغورية تناسخ الأرواح [ في حقائق الوجود ]



فيثاغورس:
قد يبدو غريباً أن فيلسوفاً إغريقياً عاش منذ 2500 عام تقريباً، ما يزال يلعب دوراً في تعليمنا الحالي، بيد أن هذا حقيقي بالنسبة لفيثاغورس، الذي ولد قرابة العام 580 ق.م. في جزيرة "ساموس" ببحر إيجه، ولسوء الحظ، لم يُعثر له على أية مؤلفات. ومعظم ما نعرفه عنه نُقل إلينا عن طريق كُتّاب متأخرين. وكما هي الحال مع العظماء، فإن الحقائق تختلط مع الأساطير في قصة حياته.
لم يكن فيثاغوس مولعاً بالأعداد والهندسة فحسب، بل والعلوم الأخرى التي كانت معروفة وقتئذ، وكان شغوفاً بالدين. ومن المرجح أنه توسع في تعلّم الموسيقا ودرس العلاقة بينها وبين الحساب، وهي من أهم اكتشافاته.
أسس فيثاغورس مدرسته زهاء العام 529 ق.م، في "كروتونا"، وهي ميناء إغريقي مزدهر في جنوب إيطاليا، وسرعان ما التحق بها 300 شاب. وكانت أقرب إلى أن تكون فرقة دينية من كونها مدرسة، فلقد كان أعضاؤها يتعارفون بإشارة سرية، وكانوا يشتركون في تملك جميع الأشياء، وتعاهدوا على أن يعاون بعضهم بعضاً. وكانت موضوعات الدراسة هي درجات الحكمة الأربع: الحساب، والهندسة، والموسيقا، والفلك، وواجبات الإنسان نحو أخيه والآخرين. وكان يُفترض في هؤلاء التلاميذ أن يمارسوا فضائل المروءة والتقوى والطاعة والإخلاص، أي جميع الفضائل في المثالية الإغريقية للرجل الطيب والشجاع.
ومن المعتقدات الرئيسة لدى فيثاغورس "تناسخ الأرواح" "Transmigration of souls"، أي أن روح الإنسان تنتقل عند موته إلى جسم آخر، بشري أو حيواني. وكان يعتقد بأن الروح لا تموت، وأن كل شيء يتحول. وقد تكمن روح الإنسان في جسد حيوان ثم تدعه إلى جسد إنسان، ومثلها الأنفاس تنتقل بين البشر والحيوانات دون أن تفقد ماهيتها، وتبقى الروح هي نفسها دائماً مهما انتقلت في أجساد مختلفة.
وكان فيثاغورس يعتقد أنه لا يمكن للروح أن تتحرر من الجسد وتفوز بالخلود في السماوات، إلا بعد حياة نقنية. والحياة النقية كانت تعني حياة التقشّف. ولكن الكثير من القواعد التي وضعها فيثاغورس كانت تشبه الطقوس البدائية، فعلى سبيل المثال: كان من المحظور على التلاميذ أن يأكلوا الفول، أو يكسروا الخبز، أو يقلبوا النار بقضيب من الحديد، أو يلتقطوا ما وقع على الأرض! وكان يعتقد أن الموسيقا بالغة الأهمية في السمو بالروح. وعلى ذلك درس التلاميذ نظرية الموسيقا. وكان من تعاليمه أن السماء كلها تتكون من "مقياس" أو "عدد موسيقي". وكان فيثاغورس من أوائل الذين أيقنوا أن الأرض والكون مستديران، أما مريدوه فكانوا يعتبرونه نصف إله.
وانغمس الفيثاغوريون في السياسة، وكانوا كلما اكتسبوا سلطاناً، أظهروا الاحتقار للجماعات الجاهلة وغير الفلسفية، التي لا تستطيع أن تحيا حياة التأمل الرفيعة. مما أدى إلى سقوطهم، بعد أن ثار الناس عليهم، ونُفي فيثاغورس، حيث توفي وهو في سن الثمانين. وبعد مئتي عام من وفاته، أقام مجلس الشعب تمثالاً له في روما، تكريماً له بوصفه "أحكم وأشجع الإغريق". ويرجع إلى فيثاغورس الفضل في تعريف كلمة الفلسفة، وهو أول من قال إنها "محبة الحكمة" "فيلو: محبة، سوفيا: الحكمة".
وكان فيثاغورس يعتقد أن أصل العالم هو "العدد" الذي هو أحكم ما في الوجود، وأن أجمل ما في الكون هو "الانسجام". والجديد في الفلسفة الفيثاغورية، القول بوجود نسب بين الأشياء تشبه النسب الرياضية والموسيقية.
وقد تصور فيثاغورس الأعداد على أنها امتداد، والعدد ليس في الحقيقة الرقم الحسابي ولكنه يرمز إلى شكل وحجم هندسيين. والأعداد هي علل وجود الأشياء من حيث إنها تحدد مساحتها. ولم يكن العدد- بالنسبة إلى المدرسة الفيثاغورية- فكرة مجردة أو مثالاً مجرد، ولكنه عدد مجسم في المكان له امتداد وشكل وحجم.
ويرجع إلى فيثاغورس الفضل في اكتشاف النظرية الهندسية الشهيرة باسمه، التي تقول إن وتر المثلث قائم الزاوية يساوي مربع الضلعين الآخرين، ويُحكى أنه قد عدَّ هذه النظرية وحياً من الآلهة. ويعتقد فيثاغورس أن هذا العالم لا فراغ فيه، ويملؤه الهواء اللامحدود، وهو الذي يفصل بين الأشياء بعضها عن بعض. كما يعتقد أن باطن العالم يحتوي على نار كامنة. وهي في مركز الأفلاك، ويسميها فيثاغورس بصورة رمزية "أم الآلهة". وهو يعتقد أن عرش زيوس هو بجانب هذه النار، وأنه نقطة الاتحاد والانسجام بين جميع الموجودات.
وكانت فكرة الدورات الزمنية من بين الأفكار السائدة في هذه المدرسة، وكل واحدة من هذه الدورات تسمى "السنة الكبيرة"، ينتهي فيها العالم ليبدأ دورة جديدة. ومن هنا نستطيع أن نقول إن عدد الأفلاك يجب أن يكون متناهياً، وهي موجودة على هيئة مثلث تتوسطه النار، وحول النار تنتظم حركة الأفلاك وعددها عشرة وحركتها دائرية.
وحسب فيثاغورس فإن الزمن ينساب كالنهر الذي لا نستطيع إيقافه، فالماء المتدفق كما الساعات المتتالية، فلا نستطيع إرجاع الموجة إلى الوراء، كما لا نستطيع إرجاع الزمن للوراء، ويصبح ما حدث منذ قليل بعيداً ثم أبعد.
وكانت المدرسة الفيثاغورية تعتقد أن الحركة هي طبيعة الموجودات، لا السكون، وأن جميع الموجودات تصدر عنها أصوات هي عبارة عن "النغم الموسيقي" في هذا العالم، والأنغام التي تصدر عن القيثارة صورة مصغرة للأنغام التي تملأ العالم، ويوضح فيثاغورس أن سبب عدم استطاعتنا سماع تلك الموسيقا الكونية هو أن السمع لا يدرك النغم إلا عندما يسبقه أو يتبعه السكون. وهذا النغم الموجدود في العالم هو نغم مستمر، وما من إنسان على هذه الأرض قد أدرك السكون السابق على هذا النغم، ولذلك فنحن لا ندرك بالسمع هذه الموسيقا الكونية.
وكان فيثاغورس يعتقد أن المخ مصدر التفكير، مؤكداً أن كل خلل يطرأ على المخ لا بد وأن يؤثر على التفكير. كما كان يعتقد أن سبب الإبصار هو نار موجودة في العين تضيء الأشياء خارجها، وأن التفكير يبدأ من الإحساس وينتهي بالذاكرة.
وفسّر فيثاغورس الموت على أنه انفصال في الذاكرة يحدث عندما تعجز النفس عن تذكر الماضي لكي تتصل بالمستقبل. وكان أول من نادى بعدم أكل لحوم الحيوانات، واعتبر أن أكل اللحم هو تدنيس للجسد البشري، ونادى بأكل الغلال والفاكهة التي تُثقل غصون الأشجار. وقال بأن الحيوانات الكاسرة هي التي تأكل اللحوم، مثل الأسود والنمور، فيما تكتفي الحيوانات الأليفة بأكل النباتات، فطالما توجد إمكانية لأن نحيا دون أن نسد رمقنا بالتهام كائن حي آخر، فلماذا إذن لعق الدماء؟