جزيرة الروضة في زمن الدولة الأيوبية [ القاهرة ]



في شهر شعبان 566هـ/1170م اشترى الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب جزيرة الروضة (567 -648هـ/1171 -1250م) وظلت في ملكه إلى أن أمره السلطان صلاح الدين الأيوبي بالقدوم إلى الشام فلما تحقق للمظفر أنه لم تكتب له العودة إلى مصر أوقف الجزيرة بكاملها على مدرستة المعروفة بالمدرسة التقوية التي كانت تعرف قديما بمنازل العز، وعلى مدرسة أخرى بالفيوم ثم سار إلى مملكة حماه حيث تولى الحكم بها.
ظلت الجزيرة متنزهاً كبيراً في زمن الدولة الأيوبية، كما ظلت وقفاً على المدرسة التقوية بمصر حتى ولي الحكم الملك الصالح نجم الدين أيوب (637- 647 هـ/ 1239- 1249 م) فأستاجر الجزيرة من القاضى المعروف بابن السكري مدرس المدرسة التقوية ومباشر أوقافها وذلك لمدة ستين سنة.
وأقام الملك الصالح بالجزء الجنوبي من الجزيرة بجوار المقياس قلعته التي عرفت باسم قلعة المقياس أو قلعة الروضة أو قلعة الجزيرة أو القلعة الصالحية، أو قلعة جزيرة الفسطاط وقد بناها لتكون قصرا ومقرا للحكم وحصنا له ولمماليكه الذين أكثر من شرائهم حتى ضاقت بهم القاهرة وصاروا يشوشرون على الناس وينهبون الأسواق فكثرت شكوى الناس منهم فاضطر الملك الصالح لبناء القلعة لهم على بحر الروضة فسموا البحرية نسبة لذلك، وما لبثوا غير شهور قليلة من نهاية حكم الصالح إلا وقد أزالوا دولة الأيوبيين وكونوا دولتهم المملوكية، كما ذكر المؤرخون سببا آخر لبناء القلعة وهو حب الصالح للعمارة وإنشائه لعمارات عظيمة كان يشرف عليها بنفسه لذا فقد بنى هذه القلعة لتخلد اسمه في التاريخ.
وكانت القلعة تقع في الجزء الجنوبي من جزيرة الروضة، وكان موقعها هذا موفقا من الناحية الاستراتيجية لكونها تقع بجزيرة يحيط بها نهر النيل من جميع النواحي مما جعلها في وضع أفضل من الناحية الدفاعية، وقد شرع في حفر أساسات القلعة في 5 شعبان سنة 638هـ وابتدأ البناء يوم 16 من هذا الشهر، وفي العاشر من ذى القعدة بدأ الهدم في الدور والقصور والمساجد التي بموضعها، كما هدمت كنيسة اليعاقبة كانت بجوار المقياس وأدخلت أرضها في أرض القلعة، كما خرب الهودج والبستان المختار وذكر المؤرخون أنه كان بموضع القلعة أشجار ونخل وجميز فقطع منها نحو ألف نخلة مثمرة كان رطبها يهدى إلى ملوك مصر لحسن منظره وطيب طعمه وكذلك قطع أربعمائة جميزة، كما ذكروا أنه هدم ثلاثة وثلاثين مسجدا عمرها خلفاء مصر وسراة المصريين، وان كان يبدو على هذا العدد المبالغة إلا أنه يعبر عن مدى عمران الجزيرة آنذاك.
وقد بالغ الصالح في اتقان بناء القلعة وزخرفتها، وقد بناها بالجص والآجر والنورة وأنفق عليها أموالا طائلة وكان الملك الصالح يشرف بنفسه عليها "فصارت تدهش من كثرة زخرفتها وتحير الناظرين إليها من حسن سقوفها المزينة وبديع رخامها".
وكانت ماسحة القلعة خمسة وستين فدانا وقد استغرق بنائها ثلاث سنوات أى تمت سنة 641هـ/ 1243م وظلت عامرة أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب وأقام بها هو وأسرته ومماليكه الألف وقيل الثمانمائة، وقد اهتم بتحصينها، وأثناء ذلك جدد جامع المستنصر، وقد غرس فيها من جميع الأشجار ونقل إليها الأعمدة من المعابد المصرية القديمة وشحنها بالأسلحة والآت الحرب وكل ما يحتاج إليها من الغلال والمؤن في ذلك الوقت الذي شهد صراعا كبيرا مع الصليبيين، وقد جعل حول القلعة شواني (مراكب) حربية مشحونة بالسلاح ومعدة لقتال الفرنج واقفة عند الصناعة التي اختطها بالجزيرة وجعل بها عماير المراكب الحربية والنيلية.
ولما أتم الملك الصالح عمارة القلعة انشد الشعراء أشعارا تخلد تلك الأعمال منهم الشاعر علم الدين أيدمر الحموي الذي نظم قصيدة طويلة يمدح فيها السلطان ويذكر فيها القلعة ويصف الاحتفالات بالمقياس وهي قصيدة طويلة نقلها" ابن دقماق".
أما الرحالة الأديب الأندلسي "ابن سعيد" فقد ذكر الروضة وخص منها قلعة وأعمال الصالح بها بالوصف والمدح فقال "هي أمام الفسطاط فيما بينها وبين مناظر الجيزة، وبها مقياس النيل وكانت متنزها لأهل مصر فاختارها الصالح بن الكامل سرير السلطنة وبنى فيها قلعة مسورة بسور ساطع اللون محكم البناء عالي السمك لم ترعيني أحسن منه".
وقال أيضا " وكنت أشق في بعض الليالي بالفسطاط على ساحلها فيزدهي ضحك البدر في وجه النيل أمام سور هذه الجزيرة الدرى اللون، ولم انفصل عن مصر حتى كمل سور هذه القلعة وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همة بانيها وهو من أعظم السلاطين همة في البناء، وأبصرت في هذه الجزيرة إيوانا لجلوسه لم ترعيني مثاله ولا أقدر ما أنفق عليه وفيه من صفائح الذهب والرخام والأبنوس والكافوري والمجزع ما يذهل الأفكار ويستوقف الأبصار، ويفصل عما أحاط به السور أرض طويلة وفي بعضها حاظر حضر به على أصناف الوحوش التي يتفرج عليها السلطان وبعدها مروج ينقطع فيها مياه النيل فينظر بها أحسن منظر".
وفي هذه السطور رسم لنا ابن سعيد صورة جميلة لجزيرة الروضة والقلعة الصالحية فعلى الرغم من اتجاه الصالح لجعلها حصنا منيعا إلا أنه أضاف إليها السمات الجمالية وجعلها متنزها حسنا عظيما وألحق بها حديقة للحيوان ومروجا خضراء تسر الناظرين.
هذا وقد كان لبناء القلعة في القسم الجنوبي من الروضة أثر كبير في اتساع عمران الروضة في جزئها الشمالي إذ تحول ساكنوا الجزء الجنوبي إليه، وكذلك عمر الشاطىء الشرقي للنيل في الجزء المواجه للقلعة عمارة كبيرة آنذاك حيث بنى الأمراء منازلهم ليكونوا على مقربة من قلعة السلطان فعظمت عمارة الفسطاط على النيل (مصر القديمة) وانتقل إليها كثير من الامراء وضخمت أسواقها واستجدت أسواق أخرى لمجاورتها للجزيرة وقلعتها الصالحية ولخدمة الأجناد بها.
وقد بقيت من القلعة الصالحية بقايا القاعات والعمائر التي قام بها الملك الصالح نجم الدين أيوب سجلتها الحملة الفرنسية منها قاعة رئيسية أبعادها 14.60 ×12.70 متر يتوسطها قبة كانت مقامة على أربعة أكتاف وحول القاعة أبنية مختلفة الأحجام أغلبها كان متخربا.
وكذلك رأى الرحالة بوكوك الذي زار مصر في القرن الثامن عشر بقايا جدران من الطوب الأحمر ارتفاعها عشرة أقدام عبارة عن أبراج غير كاملة الاستدارة من بقايا القلعة 1 2.
1 : وقد قامت لجنة حفظ الآثار العربية بعمل حفائر بجوار المقياس سنة 1935م اكتشف "كامل غالب" فيها بقايا جدران وأرضيات حجرية كبيرة الحجم كانت تخص القلعة.
2 : د. محمد الششتاوي، متنزهات القاهرة في العصرين المملوكي والعثماني، القاهرة: دار الآفاق العربية، 1999، ط1، ص 66- 70.