الحرارة الغريزية [ يوميات دير العاقول ]




في إحدى وأربعين توفي المنصور بالله أبو الطاهر إسماعيل بن القائم أبي القاسم محمد بن عبيدالله المهدي، سلخ شوال، وكانت خلافته سبع سنين وستة عشر يوماً وكان عمره تسعاً وثلاثين سنة، وكان خطيباً بليغاً، يخترع الخطبة لوقته. وكان سبب وفاته أنه خرج إلى سفاقس وتونس ثم إلى قابس، وأرسل إلى أهل جزيرة جربة يدعوهم إلى طاعته، فأجابوه إلى ذلك، وأخذ منهم رجالاً معه وعاد، وكانت سفرته شهراً، وعهد إلى ابنه معد بولاية العهد، فلما كان رمضان خرج متنزهاً أيضاً إلى مدينة جلولاء، وهو موضع كثير الثمار، وفيه من الأترج ما لا يرى مثله في عظمه، يكون شيء يحمل الجمل منه أربع أترجات، فحمل منه إلى قصره. وكان للمنصور جارية حظية عنده، فلما رأته استحسنته، وسألت المنصور أن تراه في أغصانه، فأجابها إلى ذلك ورحل إليها في خاصته، وأقام بها أياماً، ثم عاد إلى المنصورية، فأصابه في الطريق ريح شديدة وبرد ومطر، ودام عليه فصبر وتجلد، وكثر الثلج، فمات جماعة من الذين معه، واعتل المنصور علة شديدة، لأنه لما وصل إلى المنصورية أراد دخول الحمام، فنهاه طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي عن ذلك، فلم يقبل منه، ودخل الحمام، ففنيت الحرارة الغريزية منه، ولازمه السهر، فأقبل إسحاق يعالج المرض، والسهر باقٍ بحاله، فاشتد ذلك على المنصور، فقال لبعض الخدم: أما في القيروان طبيب غير إسحاق يخلصني من هذا الأمر ؟ قال: ها هنا شاب قد نشأ الآن اسمه إبراهيم؛ فأمر بإحضاره، وشكا إليه ما يجده من السهر، فجمع له أشياء منومة، وجعلت في قنينة على النار، وكلفه شمها، فلما أدمن شمها نام. وخرج إبراهيم وهو مسرور بما فعل، وبقي المنصور نائماً، فجاء إسحاق فطلب الدخول عليه، فقيل: هو نائم؛ فقال: إن كان صنع له شيئا ينام منه فقد مات؛ فدخلوا عليه فوجدوه ميتاً، فدفن في قصره، وأرادوا قتل إبراهيم، فقال إسحاق: ما له ذنب، إنما داواه بما ذكره الأطباء، غير أنه جهل أصل المرض، وما عرفتموه، وذلك أنني كنت في معالجته أنظر في تقوية الحرارة الغريزية، وبها يكون النوم، فلما عولج بالأشياء المطفئة لها علمت أنه قد مات.
ولما مات ولي الأمر بعده ابنه معد، وهو المعز لدين الله، وأقام في تدبير الأمور إلى سابع ذي الحجة، فأذن للناس فدخلوا عليه، وجلس لهم، فسلموا عليه بالخلافة، وكان عمره أربعاً وعشرين سنة.