بغداد دار السلام وحضرة الإسلام [ تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار ]



قال ابن بطوطة عن بغداد عندما زارها عقب خروجه من كربلاء: مدينة بغداد مدينة دار السلام، وحضرة الإسلام، ذات القدر الشريف، والفضل المنيف، مثوى الخلفاء، ومقر العلماء، وقال أبو الحسن بن جبير رضي الله عنه: وهذه المدينة العتيقة وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية، فقد ذهب رسمها. ولم يبق إلا اسمها. وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب إليها كالطلل الدارس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر، ويستدعي من المستوفز الغفلة والنظر، إلا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها كالمرآة المجلوة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبتين. فهي تردها ولا تظمأ ونتطلع منها في مرآة صقيلة لا تصدأ، والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ.
ولبغداد جسران اثنان معقودان على نحو الصفة التي ذكرناها في جسر مدينة الحلة، والناس يعبرونهما ليلاً ونهاراً، رجالاً ونساء فهم في ذلك في نزهة متصلة ببغداد من المساجد التي يخطب فيها، وتقام فيها الجمعة أحد عشر مسجداً، منها بالجانب الغربي ثمانية، وبالجانب الشرقي ثلاثة والمساجد سواها كثيرة جداً، وكذلك المدارس إلا أنها خربت.
وحمامات بغداد كثيرة وهي من أبدع الحمامات، وأكثرها مطلية بالقار مسطحة به، فيخيل لرائيه أنه رخام أسود، وهذا القار يجلب من عين بين الكوفة والبصرة تنبع أبداً به، ويصير في جوانبها كالصلصال، فيجرف منها، ويجلب إلى بغداد. وفي كل حمام منها خلوات كثيرة كل خلوة منها مفروشة بالقار مطلي نصف حائطها مما يلي الأرض به، والنصف الأعلى مطلي بالجص الأبيض الناصع، فالضدان بها مجتمعان، متقابل حسنهما وفي داخل كل خلوة حوض من الرخام فيه أنبوبان أحدهما يجري بالماء الحار والآخر بالماء البارد فيدخل الإنسان الخلوة منها منفرداً لا يشاركه أحد إلا إن أراد ذلك وفي زاوية كل خلوة أيضاً حوض آخر للاغتسال فيه أيضاً أنبوبان يجريان بالحار والبارد وكل داخل يعطى ثلاثاً من الفوط إحداهما يتزر بها عند دخوله والأخرى يتزر بها عند خروجه، والأخرى ينشف بها الماء عن جسده ولم أر هذا الإتقان كله في مدينة سوى بغداد، وبعض البلاد تقاربها في ذلك.
والجانب الغربي منها هو الذي عمر أولاً، وهو الآن خراب أكثره وعلى ذلك فقد بقي منه ثلاث عشرة محلة، كل محلة كأنها مدينة بها الحمامان والثلاثة وفي ثمانٍ منها المساجد الجامعة ومن هذه المحلات محلة باب البصرة وبها جامع الخليفة أبي جعفر المنصور رحمه الله، والمارستان، فيما بين محلة باب البصرة ومحلة الشارع على الدجلة، وهو قصر كبير خرب بقيت منه الآثار وفي هذا الجانب الغربي من المشاهد قبر معروف الكرخي رضي الله عنه، وهو في محلة باب البصرة، وبطريق باب البصرة مشهد حافل البناء في داخله قبر متسع السنام، عليه مكتوب: هذا قبر عون من أولاد علي بن أبي طالب، وفي هذا الجانب قبر موسى الكاظم بن جعفر الصادق والد علي بن موسى الرضا، وإلى جانبه قبر الجواد والقبران داخل الروضة عليهما دكانة ملبسة بالخشب عليه ألواح الفضة.
وهذه الجهة الشرقية من بغداد حافلة بالأسواق عظيمة الترتيب، وأعظم أسواقها سوق يعرف بسوق الثلاثاء، كل صناعة فيها على حدة وفي وسط هذا السوق المدرسة النظامية العجيبة التي صارت الأمثال تضرب بحسنها وفي آخره المدرسة المستنصرية ونسبتها إلى أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي جعفر ابن أمير المؤمنين الظاهر ابن أمير المؤمنين الناصر وبها المذاهب الأربعة لكل مذهب ايوان فيه المسجد، وموضع التدريس، وجلوس المدرس في قبة من خشب صغيرة على كرسي، عليه البسط، ويقعد المدرس، وعليه السكينة والوقار، لابساً ثياب السواد معتماً، وعلى يمينه ويساره معيدان يعيدان كل ما يمليه، هكذا ترتيب كل مجلس من هذه المجالس الأربعة وفي داخل هذه المدرسة الحمام للطلبة ودار الوضوء وبهذه الجهة الشرقية من المساجد التي تقام فيها الجمعة ثلاثة: أحدها جامع الخليفة، وهو المتصل بقصور الخلفاء ودورهم، وهو جامع كبير في سقايات ومطاهر مثيرة للوضوء وللغسل، ولقيت بهذا المسجد الشيخ الإمام العالم الصالح مسند العراق سراج الدين أبا حفص عمر بن علي بن عمر القزويني، وسمعت عليه فيه جميع مسند أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي، وذلك في شهر رجب الفرد عام سبعة وعشرين وسبعمائة قال: أخبرتنا به الشيخة الصالحة المسندة بنت الملوك فاطمة بنت العدل تاج الدين أبي الحسن علي بن علي بن أبي البدر قالت: أخبرنا الشيخ أبو بكر محمد بن مسعود بن بهروز، الطبيب المارستاني قال: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن شعيب السنجري الصوفي قال: أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن المظفر الداودي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي عن أبي عمران عيسى ابن عمر بن العباس السمرقندي عن أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي. والجامع الثاني جامع السلطان، وهو خارج البلد وتتصل به قصور تنسب للسلطان، والجامع الثالث جامع الرصافة وبينه وبين جامع السلطان نحو الميل. وهذه الجهة الشرقية من بغداد ليس بها فواكه، وإنما تجلب إليها من الجهة الغربية لأن فيها البساتين والحدائق ووافق وصولي إلى بغداد كون ملك العراق بها، فلنذكره ها هنا.
وذكر ابن بطوطة نقيب الأشراف في العراق فقال: ونقيب الأشراف مقدم من ملك العراق، ومكانه عنده مكين، ومنزلته رفيعة، وله ترتيب الأمراء الكبار في سفره، وله الأعلام والأطبال، وتضرب الطبلخانة عند بابه مساء وصباحاً، وإليه حكم هذه المدينة، ولا والي بها سواه، ولا مغرم فيها للسلطان ولا لغيره. وكان النقيب في عهد دخولي إليها نظام الدين حسين بن تاج الدين الآوي، نسبة إلى بلده آوة من عراق العجم، أهلها رافضة، وكان قبله جماعة، يلي كل واحد منهم بعد صاحبه، منهم جلال الدين بن الفقيه ومنهم قوام الدين بن طاوس ومنهم ناصر الدين بن مطهر بن الشريف الصالح شمس الدين محمد الأوهري من عراق العجم، وهو الآن بأرض الهند من ندماء ملكها، ومنهم أبو غرة بن سالم بن مهنا بن جماز بن شيحة الحسيني المدني.
وزار ابن بطوطة بغداد مرة أخرى بعد خروجه من تبريز فقال: ثم سافرنا إلى أن وصلنا محلة السلطان، فأعلمه الأمير المذكور بمكاني وأدخلني عليه، فسألني عن بلادي وكساني وأركبني، وأعلمه الأمير أني أريد السفر إلى الحجاز الشريف فأمر لي بالزاد والركوب في السبيل مع المحمل، وكتب لي بذلك إلى أمير بغداد خواجه معروف، فعدت إلى بغداد، واستوفيت ما أمر لي به السلطان، وكان قد بقي لأوان سفر الركب أزيد من شهرين، فظهر لي أن أسافر إلى الموصل وديار بكر، لأشاهد تلك البلاد، وأعود إلى بغداد في حين سفر الركب، فأتوجه إلى الحجاز الشريف. فخرجت من بغداد إلى منزل على نهر دجيل، وهو متفرع عن دجلة، فيسقي قرى كثيرة.
وقال ابن بطوطة بعد خروجه من صرصر وهو في طريق عودته إلى طنجة: ثم (سافرت) إلى مدينة بغداد. وصلتها في شوال سنة ثمان وأربعين، ولقيت بها بعض المغاربة فعرفني بكائنة طريف، واستيلاء الروم على الخضراء. جبر الله صدع الإسلام في ذلك.
قال التازي: العاصمة الجديدة: بغداد المؤسسة من قبل الخليفة المنصور عام 139=756 هي "المدينة المدوّرة" كانت توجد على الشط الغربي بين الغربية وباب البصرة.. وعلى عهد ابن بطوطة لم يصمد إلا الجامع الكبير المنسوب للمنصور. ويلاحظ مرة أخرى اقتباس ابن بطوطة من ابن جبير مع محاولته تحديث أو تيويم المعلومات بالنسبة لما ذكر ابن جبير وخاصة بعد اجتياح المغول لبغداد سنة 656=1256.. وقال: يستوحي ابن بطوطة كذلك من وصف ابن جبير لبغداد، ولكن من غير أن يماشيه كثيراً لأن هناك بين تاريخ الرحلتين حدثاً بارزاً يعرفه التاريخ وهو اجتياح بغداد من قبل المغول عام 656=1258، علاوة على انتهاء عصر الخلافة الذي غيّر من معالم المدينة..
وقال: تظلّ بغداد شامخة في ذاكرة التاريخ بما عرفته من رجال تهافت الناس على أخذ الزاد منهم، وتكفي الإشارة إلى مقولة أبي القاسم الدينوري جوباً لأبي علي السنجي وقد سأله عما يميز أبا حامد الإسفرايني عنه مع أنهما معاً عالمان جمعا بين رياسة الدين والدنيا؟ فكانت المقولة: "ذاك رفعته بغداد وحطتني الدينور"!!