قبر الصحابي الجليل سلمة أبو هاشم [ القرى الفلسطينية المدمرة ]



كانت القرية قائمة في رقعة مستوية من الأرض، في السهل الساحلي الأوسط، إلى الشمال من الطريق العام المؤدي إلى يافا. وكان سكان القرية يعتقدون أن قريتهم سميت بهذا الاسم تيمناً بالصحابي الجليل سلمة أبو هاشم، الذي دفن في القرية سنة 634م، وبات ضريحه القائم في الركن الشمالي الغربي من القرية يعرف بمقام سيدنا سلمة. في سنة 1596، كانت سلمة قرية في ناحية الرملة (لواء غزة)، وعدد سكانها 94 نسمة. وكانت تؤدي الضرائب على عدد من الغلال كالقمح والشعير، بالإضافة إلى عناصر أخرى من الإنتاج والمستغلات كالماعز وخلايا النحل. وقد زار الرحالة الشامي المتصوف البكري الصديقي، الذي جال في المنطقة في أواسط القرن الثامن عشر، المقام المذكور. في أواخر القرن التاسع عشر، كانت سلمة قرية مبنية بالطوب، وفيها بضع حدائق وآبار.
في فترة الانتداب البريطاني كانت سلمة مقسمة إلى أحياء، وكان يسكن في كل حي "حمولة" (عشيرة) أو فرع من "حمولة". وكانت المنازل، أول أمرها، متجمهرة بعضها قرب بعض، وتتحلق منازل كل "حمولة" أو فرع من "حمولة" حول حوش فسيح ذي مدخل واحد مشترك. وكان هذا الحوش يتيح للنسوة متسعاً خاصاً من أجل القيام بأعمالهن المنزلية، وللأولاد من أجل اللعب، وللأسر من أجل الاجتماع مساء وفي المناسبات الخاصة. وقد بنى بعض الأسر منازل في البساتين، لكن هذه الأسر لم تكن تنتمي عادة إلى الحمائل. ومع أن المنازل كانت في معظمها مبنية بالطوب، إلا إن نفراً من سكان القرية بنى منازل حجرية أو منازل بغدادية؛ وهي منازل تبنى من الخشب الذي يكسى بالطين ويطلى بماء الكلس من الداخل فتغدو الحيطان عازلة للحرارة.
وكان سكانها يتألفون من 6670 مسلماً، و 60 مسيحياً. وكان في سلمة مدرستان: إحداهما للبنين والأخرى للبنات. وقد فتحت مدرسة البنين أبوابها في سنة 1920، ومدرسة البنات في سنة 1936. وفي سنة 1941، كان عدد التلامذة المسجلين في المدرستين 504 تلاميذ و 121 تلميذة على التوالي. وكان سكان القرية يمولون فريقاً لكرة القدم. كان في القرية عدة متاجر وخمسة مقاه. وفي فترة الانتداب، أنشئ في سلمة شركة نقل امتلكت السيارات والباصات، وكان لها شركاء في قرية العباسية المجاورة، وكانت تدعى "شركة سيارات سلمة - العباسية". وكان سكان سلمة يعملون، بصورة رئيسية، في الزراعة وفي كل ما يتعلق بها. كما عمل نفر منهم في التجارة وفي الوظائف الحكومية. في 1944- 1945، كان ما مجموعه 2853 دونماً مخصصاً للحمضيات والموز، و 2266 دونماً للحبوب، و 370 دونماً مروياً أو مستخدماً للبساتين. أما الزراعة فكانت بعلية ومروية معاً، وكانت مياه الري تجلب من نحو 85 بئراً أرتوازية. وكان المزارعون يشحنون منتوجاتهم إلى يافا ويبيعون قسماً منها في المستعمرات الصهيونية المجاورة. وكانوا يشحنون الحليب أيضاً إلى مصنع للألبان في يافا، كان يمتلكه رجلان من سلمة.
حول احتلال القرية وتهجير سكانها، كانت سلمة محاطة بعدة مستعمرات يهودية، وباتت عرضة للهجمات شبه المستمرة طوال خمسة أشهر، ابتداء من 5 كانون الأول - ديسمبر 1947؛ أي بعد مرور أسبوع على صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين. فقد ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن عناصر من الهاغاناه أطلقت نيران رشاشاتها على سلمة في ذلك اليوم، وأن الأسر العربية راحت تخلي المنطقة وتتوجه إلى اللد والرملة. وذكرت صحيفة "فلسطين" أن هجوماً ذا شعبتين وقع في التاريخ نفسه، وأنه هدأ بعد وصول الشرطة البريطانية ثم استؤنف في الليل. وقد أفيد عن وقوع عمليات قنص وعمليات هجومية أخرى في اليومين اللاحقين. ويذهب "تاريخ الهاغاناه" إلى أن قيادة الهاغاناه في تل أبيب قررت، في كانون الأول - ديسمبر 1947، "مهاجمة قرية سلمة السيئة الصيت"، وقد نفذ فجر 19 كانون الأول - ديسمبر، وكان مآله الفشل. ويشير المؤرخ الفلسطيني عارف العارف إلى غارة أخرى شنت في 28 كانون الأول - ديسمبر، وسبقها هجوم تضليلي انطلق من مستعمرة بيتح تكفا. وقد انطلقت الغارة الصهيونية من رمات غان، حيث حشد الصهيونيون قوة كبيرة تم تشكيلها من شرطة المستعمرات اليهودية ومن عصابة الإرغون. ولم يكتف المدافعون عن القرية بإرغام المهاجمين على الانسحاب فحسب، بل شنوا أيضاً هجوماً مضاداً على بيتح تكفا، وانضم إليهم فيه رجال الميليشيا من اللد والعباسية.
في أوائل كانون الثاني - يناير 1948، أقام سكان القرية عدة دفاعات مرتجلة حول سلمة. وورد في صحيفة "نيويورك تايمز"، بتاريخ 11 كانون الثاني - يناير، أن وحدات الجيش البريطاني استخدمت نيران المدفعية لإزالة أربعة حواجز حول القرية، وأوعزت إلى المختار بأن يلزم سكان القرية بردم خندق كبير "أعد، فيما يظن، كتدبير دفاعي." وذكرت صحيفة "فلسطين" الحادث نفسه، مضيفة أن الجيش البريطاني سوغ أعماله بالقول أنه يحتاج إلى التنقل بحرية في أنحاء المنطقة. ومن الجلي أن الحواجز الدفاعية كانت نافعة، إذ إن صحيفة "فلسطين" أشارت إلى أن ما لا يقل عن عشر هجمات متباينة شنت على القرية في كانون الثاني - يناير وحده، وأحياناً كان يشن أكثر من هجوم في الليلة الواحدة.
اعتقد الصهيونيون أن سلمة كانت ملاذاً للمقاتلين العرب غير المحليين. لكن عارف العارف يشير إلى أن السكان أنفسهم نظموا ميليشيا مؤلفة من نحو 30 رجلاً، في إثر صدور قرار الأمم المتحدة بالتقسيم في تشرين الثاني- نوفمبر 1947. وقلما مر يوم بعد هذا التاريخ من دون حدوث مناوشات حول القرية، بحيث كان "الرصاص ينهمر" في أثنائها على سلمة. ويذكر المؤرخ الإسرائيلي بني موريس هجوماً صهيونياً شنته الكتيبة الثالثة من لواء ألكسندروني في 18 كانون الثاني - يناير 1948. وقد نصت أوامر عملية كانون الثاني- يناير هذه على "أن الهدف هو مهاجمة الجزء الشمالي من قرية سلمة... والتسبب بالموت وتفجير المنازل وإحراق كل ما يمكن إحراقه." وأضيف إلى ذلك تقييد يقضي "ببذل الجهود لتحاشي إيذاء النساء والأطفال." وقد دمرت منازل عدة، بحسب ما ذكر موريس، في أثناء هذا الهجوم.
أما أكبر الهجمات التي شنت في الأسابيع اللاحقة، والتي ذكرت أنباؤها في عدة مصادر، فهي تلك التي وقعت في 28 شباط- فبراير و 15 - 16 نيسان- أبريل. وقد أرسل جيش الإنقاذ العربي 20 مقاتلاً للمشاركة في الدفاع عن سلمة في أثناء الهجوم الأول. وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز"، في سياق تقريرها عن هذا الهجوم، أن الهاغاناه "اجتاحت" سلمة، وأن هذا الهجوم لم يكشف النقاب عنه إلا في اليوم التالي عندما اكتشفت الشرطة البريطانية جثث 6 يهود قتلوا في أثناء محاولة الاجتياح. وجاء في بلاغ رسمي أصدرته القوات العربية المتمركزة في المنطقة، أن قوة مؤلفة من 250 جندياً يهودياً اشتركت في الهجوم الأول، ومنها فصيلة أمامية قوامها 50 عنصراً. وأضاف أن اليهود الستة الذين قتلوا كانوا من الفصيلة المذكورة التي حاصرها المدافعون عن القرية. وقال البلاغ، الذي نشر في صحيفة "فلسطين"، أن ثلاثة من العرب قتلوا في المعركة، بينهم امرأة. وذكر عارف العارف أن 30 قذيفة هاون من عيار 3 إنشات، على الأقل، انهمرت في أثناء الهجوم الثاني على القرية من مراكز يهودية في مستعمرة بيتح تكفا. استمرت الهجمات حتى النصف الثاني من نيسان- أبريل، لكن ذخيرة المدافعين عن القرية ما لبثت أن نفذت وأخذ سكانها بالرحيل. غير أن احتلال القرية لم يتم إلا في أواخر نيسان- أبريل، خلال عملية حميتس "الفصح". وقد احتلت وحدات من لواء ألكسندروني سلمة في 29 نيسان- أبريل 1948. ويستشهد موريس بقول إذاعة الهاغاناه إن القرية أخليت منذ "الهجوم الأول". غير أن العارف يذكر أن القوات اليهودية لم تدخل سلمة إلا بعد أن أيقنت بأن القرية أخليت من سكانها. ويروي أن القرية كانت خالية في 30 نيسان- أبريل. ويفيد نبأ عاجل ورد في صحيفة "نيويورك تايمز" أن سلمة استسلمت للهاغاناه في ذلك اليوم. وقد زار سلمة، في وقت لاحق من ذلك اليوم، دافيد بن - غوريون الذي كتب في يومياته أنه لم يجد فيها" إلا امرأة مسنة عمياء." ويقول موريس إن السكان تشتتوا بين مواضع عدة، فذهب بعضهم إلى نواحي رام الله ونابلس، وذهب بعضهم الآخر إلى غزة والأردن.
طغى تمدد تل أبيب على القرية وأراضيها، وبقي من القرية اليوم أبنية كثيرة: منازل عدة؛ أربعة مقاه؛ المسجد؛ المقام؛ مقبرة واحدة؛ المدرستان. المنازل مهجورة وفي حال مزرية من الإهمال، باستثناء تلك التي يقيم يهود فيها. وهذه المنازل مبنية في معظمها بالأسمنت، وتبدو عليها سمات معمارية متنوعة. وهي أبنية مؤلفة من طبقة واحدة أو من طبقتين، ولها أبواب ونوافذ مستطيلة الشكل (باستثناء منزل واحد يجمع بين النوافذ المقنطرة والمستطيلة). وتعود ملكية أربعة منازل إلى أحمد محمد صالح ومصطفى أبو نجم وأبو جرادة وأبو عماشة. أما منزل أبو نجم فهو بناء من الأسمنت مؤلف من طبقتين، أبوابه ونوافذه مستطيلة (بعضها مصبع، وبعضها الآخر ذو مصراعين)، وهو مختوم، وقد زال الدرج الخارجي المؤدي إلى طبقته العلوية. كانت المقاهي الأربعة معروفة بأسماء مالكيها: محمد الحوتري، وأبو عصبة، وشعبان الناجي، والعربيد. وتعيش أسرة يهودية في مقهى الحوتري. ولهذا المقهى رواق أمامي مغلق وسقف مائل مغطى بصفائح معدنية متموجة، وباب وسم قسمة الأسفل بنجمة داود. المقام ذو القبة في حال من الإهمال. إحدى مقبرتي القرية "مقبرة الشهداء" مهجورة وتكسوها النباتات البرية، أما الثانية فقد حولت إلى متنزه إسرائيلي صغير. وتنبت أشجار التين والسرو والنخيل وشوك المسيح ونبات الصبار في أنحاء الموقع. وبصورة عامة، يغلب البناء على الأراضي المحيطة 1.
1 : وليد الخالدي وآخرون، كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها، ترجمة حسني زينة، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2001، ط3، ص704- 708.