عادة ليلة النقطة عند الفراعنة [ القاهرة ]



ظلت هذه العقيدة سائدة في مصر حتى عهد قريب، إذ كان يقام في 11 بؤونة- ويوافق 17 يونيو أحياناً و 18 يونيو أحياناً أخرى- حفل شعبي يسمى (ليلة النقطة). وتميل مياه النيل إلى الخُضرة في هذا الوقت، فيكون بشيراً ببدء الفيضان الذي يكتمل في شهر أغسطس، فيُقام له عيد آخر عندما تفتح السدود والقنوات، ويغمر الفيضان الأراضي فيتراءى كأن المياه تحتضن الأرض، أو كأن النيل يتزوج مصر تلك العروس الجميلة التي تقدم نفسها ليغمرها هذا الرجل المخصب بفيضانه.
وكان المصريون القدماء يعتقدون أنه إذا لم تَقُم الحفلات الرائعة بوفاء النيل في حينها، فإن النيل يمتنع عن الزيادة ولا يغمر الماء الأراضي.
وكانت هذه العقيدة متأصلة تحملهم على إقامة الحفلات في كل عام. وقد اعتاد كهان جبل السلسلة (قرب كوم أمبو) الاحتفال بعيد (حابي) في حفل باهر فيلقون في الماء قرطاساً مختوماً من البردي ينص فيه على إطلاق الحرية لزيادة الماء.
وكان الفرعون أو نائبه يحضر هذا الحفل.. وقد وجد على صخور الجبل نص بمثابة تذكار باشتراك الفرعون بعيد هذا الإله يصحبه رجال الدين والعظماء وغيرهم من جموع الشعب الذين يُقبلون من كل حدب وصوب مستبشرين.
وكان الكهان يحملون تمثالاً من الخشب لإله النيل، يزفونه على الشاطئ. فإذا رأت الجموع الحاشدة هذا التمثال، انحنوا في خشوع وارتفعت أصواتهم بالدعاء التماساً لبركته، ويقوم الكهان بعد ذلك بتلاوة الطقوس الدينية وإطلاق البخور، بينما القوم يرقصون وينشدون الأناشيد الدينية على أنغام الموسيقى.
ومن المرجح أن جزءاً من هذا الحفل كان يُقام في مراكب على صفحة النيل. وبلغ من تقديسهم لهذا العيد أن قدّم رمسيس الثالث تمثالاً للنيل على هيئة امرأة جميلة لتكون زوجته، وإذا حلّ الخريف وانحسرت مياه النهر أُعيدت التماثيل إلى مكانها.
ولا تزال الحكومة تنهج على منوال أسلافنا في الاحتفال بعيد وفاء النيل إذ تحتفل رسمياً في النصف الثاني من شهر أغسطس من كل عام- جرياً على عادتها منذ آلاف السنين- على إحدى البواخر النيلية والصندل الفرعوني المعروف (بالعقبة) بحضور كبار الموظفين، وتدوي طلقات المدافع من الباخرة، وهي تشق طريقها في مياه النيل الحمراء حاملة الخصب والخيرات.
وفي سُرادق يضم رجال الدولة والمدعوين يتلو مفتي الديار في مصر مراسم الحفل بعد إقرار شهادة كبار الموظفين الرسميين، بأن النيل قد وصل عند مقياس الروضة إلى منسوب 22 ذراعاً وقيراطين، وأنه القدر الكافي من مياه النيل لري الأراضي.
وقد أُلغي استعمال مقياس الروضة القديم، واحتفظ به كأثر جليل، وأقيم بالقرب منه مقياس جديد يستخدم في معرفة مناسيب النيل.
وهناك بعض عبارات تقليدية تتضمنها حجة وفاء النيل فتقول (بعد أن تحقق لدينا وفاء النيل المبارك في هذا العام، وجبت جباية جميع أنواع الضرائب المقررة بمقتضى القوانين واللوائح واستحقت كافة الأموال والمرتبات والمستغلات للخزانة العامة) 1.
1 : سيد صديق عبد الفتاح، أغرب الأعياد وأعجب الاحتفالات، القاهرة: دار الأمين، 1994، ط1، ص 534- 536.