المدرسة الأشرفية [ الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية ]



قال النابلسي في وصف المدرسة الأشرفية: تقع داخل المسجد الأقصى، وهي إلى الغرب من ساحة الحرم، وإلى الشمال من باب السلسلة، تمتد من باب السكينة أو باب السلام من القبلة حتى المدرسة العثمانية من الشمال. من أسمائها: "السلطانية"، بناها في الأصل الأمير حسن الظاهري باسم الملك الظاهر خوشقدم العام 875هـ - 1470م، وكانت تدعى آنذاك بـالسلطانية، ولما توفي الملك الظاهر ولم يكن بناؤها قد تم، رجا (أي الأمير حسن) الملك الأشرف قايتباي أن يتقبلها فقبلها منه، ونسبت إليه فسماها "الأشرفية"، ورتب لها مشايخ وفقهاء ومدرسين للتعاليم الصوفية. ولما زار قايتباي القدس في سنة 880هـ 1475م، ورأى المدرسة لم تعجبه وأمر بهدمها، وأرسل العام 884هـ - 1479م خاصكياً فهدمها، وأعاد بناءها مضيفا إليها بعض العمائر. وتولى عمارتها القاضي فخر الدين بن نسيبة الخزرجي، فجاءت آية في الإبداع، ووصفت بأنها: "الجوهرة الثالثة في منطقة الحرم بعد قبة الصخرة وقبة الأقصى. كانت مؤلفة من طبقتين، واحدة علوية وأخرى سفلية، ولعلها آخر المدارس الإسلامية الفخمة التي أنشئت من هذا الطراز في بيت المقدس، هدم القسم الأكبر منها مع تقادم العهد، ولم يبق منها إلا بعض الجدران، ومدخلها الجميل الذي يدخل منه المؤذن ليؤذن من على المئذنة الواقعة في زاويتها الجنوبية الشرقية. وعند مدخلها مدفن، فيه قبر "الشيخ محمد اليماني". وبجانبه من الشمال غرفة كبيرة، كانت جامعاً، وكانت تدعى "السلطاني". وأصبحت فيما بعد مخزناً للشمع والزيت والحصر وأدوات المسجد الأخرى.
ويوجد على الجدار الباقي من جدرانها الكلمات الآتية منقوشة بالنسخ المملوكي بأحرف كبيرة: "أمر بإنشاء هذه المدرسة الشريفة مولانا السلطان الملك الأشرف أبو النصر قايتباي عز نصره بتاريخ مستهل شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثمان مائة. وذلك في أيام المعز الأشرف الناصري سيدي محمد الخازندار ناظر الحرمين الشريفين عظم الله شأنه". وعلى جانب آخر من نفس الجدار نقشت الكلمات التالية: "أمر بإنشاء هذه المدرسة المباركة الإمام الأعظم والملك المكرم السلطان الملك الأشرف أبو النصر قيتباي عز نصره فكان الفراغ من ذلك في شهر رجب سنة 887هـ". وأنشد النابلسي شعراً قال فيه:

وسلطانيةٍ في القدسِ كنا نقابل فوقها طوراً بطور 1
نبيتُ برفرفٍ عالٍ شريفٍ ونصبحُ في ذرى أعلى القصور
وتلك أجلُّ مدرسةٍ تسامت بأنواع المحاسن في الظهور
بها الحرم المقدس قد تجلى لساكنها بأنواع الحضور
وقبة صخرة لله منها تلوح رفيعة شبهُ البدور
وتبدو قبة الأقصى وباقي قبابٍ ثَمَّ قد حُفَّت بسور
وأسفل ذاك حوض الماء يجري وسبع الصدر ضحاك الثغـور
وجانبه أنابيب تحاكي مراشف ثغر ربات الخدور
سكنا مدة فيها كأنا بجنات النعيم وبالنهور
وما رأت العيون لها نظيراً وليس ترى على مر الدهـــور

وقال النابلسي معلقاً على زيارته للمدرسة: ثم سرنا إلى أن وصلنا إلى المدرسة السلطانية، وصعد معنا الناس حتى غصّت بهم هاتيك الأماكن المرتفعة العلية. وحين أقبلنا على المدرسة المذكورة، رأينا باباً مرتفعاً عظيماً مصنوعاً من الأحجار المنحوتة الملونة المحفورة، وعليه رواق المدرسة مبنيّ بالأعمدة الرخام والأحجار الكبار العظام، والعقد المبني العالي، وكمال الرونق والبهجة كالكوكب المتلألئ، حتى صعدنا نحو خمسين درجة من الدرجات الكبار المبنية بالمنحوت من الأحجار، وهو درج ملفوف مشترك مع دار المنارة، وفي أثناء الدرج شبابيك كبار من النحاس، مطلات على الحرم، ينظر الصاعد فيها إلى الناس. ثم دخلنا من فوق ذلك الدرج إلى عمارة وذلك على مقدار النصف من درج المنارة، فعبرنا إلى مكان واسع الفضاء، مزخرف الجوانب بالأحجار المنحوتة، إذا طلعت عليه الشمس أضاء، يطل عليه أربع شبابيك من شبابيك المدرسة، معقودة من النحاس الأصفر يروق في ذلك المنظر. ثم عبرنا من باب آخر مصنوع من الأحجار المنحوتة والزخارف والكتابات التي تظل العيون فيها مبهوتة، فوجدنا ممشىً صغيراً مبلطاً بالرخام والدقيق الملوّن من الأحجار العظام. وهناك جهتان مشتملتان على بابين، أحدهما على اليمين والآخر على الشمال، فالذي على الشمال يُتوصّل منه إلى مطبخ وبيت طهارة، وما يُحتاج إليه من الأحوال، فأخذنا من ذلك جهة اليمين، فوجدنا باباً بمصراعين لطيفين، فدخلنا منه إلى ميدان من ألطف الميادين مفروش جميعه بالسماقي الملوّن على الألوان، والرخام الأبيض والدقيق من الحجارة التي تزين المكان، مسقوف بالسقوف العجمية المدهونة التي تحيّر الأذهان، فإذا هي قاعة متقنة البنيان، محكمة الأركان، تشتمل على أربعة إيوانات.
وهي مسقوفة بالسقوف العجمية التي هي بأنواع الدهان والأطلية مزخرفات، وجميع جدرانها من داخلها معمولة بالرخام والحجر السماقي الخام، وأنواع الفصوص والأحجار الدقاق، فأرضها تحاكي حيطانها في زيادة البهجة والإشراق، وأرضية الإيوانات الأربع مفروشة أيضاً بالسماقي والرخام، وأنواع الأحجار الملونة والفصوص المكونّة. فإيوانان منها كبيران واسعان متقابلان، أحدهما أكبر من الآخر وأوسع، وهو القبلي وفيه المحراب العظيم البنيان المتقن غاية الإتقان. وإيوانان صغيران متقابلان، أحدهما أصغر من الآخر، فالصغير منهما له شبّاكان مطلان على الساحة العلوية، التي ذكرناها آنفاً، والإيوان الآخر الذي يقابله، منفتح الصدر لمّاع، فيه عامودان من الرخام الأبيض، وله شعيرة مبنية من الأحجار الملوّنة في ارتفاع ذراع. وذلك مطل على الحرم الشريف، وصحن الصخرة العالي المنيف، وارتفاع سقوف الإيوانات والمدرسة يسامت تلك المنارة، وكل ذلك معمّر أكمل العمارة. وفي الإيوان القبلي من الشرق ثلاثة شبابيك كبار، معقودة من النحاس الأصفر نزهة للأبصار، مطلات على الحرم وصحن الصخرة. وفي جهته القبلية أربع شبابيك كبار أيضاً كذلك، واحد منها يطل على الحرم الشريف من جهة القبلة، والثلاثة مطلة على دهليز المدرسة وتلك الظلّة، وشبَّاكان من الجهة الغربية على تلك الساحة المذكورة السماوية، وفي الإيوان الشمالي شباكان كبيران من الجهة الشرقية، مطلان على الحرم وهاتيك المسالك، ومن جهة الغرب شباكان أيضاً مطلان على بيت لطيف لصيق المطبخ المذكور فيما تقدم.
وعلى الجملة والتفصيل، فهي مدرسة عظيمة ذات قدر جليل، وهي من بناء السلطان الملك الأشرف قايتباى الشركسي. وقد ذكر الشيخ محمد بن الشيخ يوسف الباعوني في التاريخ المنظوم، الذي ذيلنا عليه بذكر الدولة العثمانية وجرينا على أسلوبه المعلوم عند ترجمة السلطان الأشرف قايتباي وذكر ماله من الخيرات والعماير، فقال: وعمّر السلطان أيضاً مدرسة في المسجد الأقصى، غدت مؤسسة في غاية الإتقان والإحكام، بزخرف الطرز وبالرخام 2.
1 : يريد أن المدرسة السلطانية كالجبل في بيت المقدس، ينظر الواقف عليها إلى جبل الطور، وكأنه واقف على جبل مثله.
2 : أنظر في ذلك: عارف العارف، المفصل في تاريخ القدس، القدس: مكتبة الأندلس، 1961. أبو اليمن مجير الدين الحنبلي، الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، أبوظبي: مكتبة الصفاء، تحقيق عدنان يونس عبد المجيد أبو تبانة، تحرير محمود على عطا الله، 1999، ص387. عبد الغني النابلسي، كتاب الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية، د.م: د. ن، 1902، ص