بيت دجن منذ العصر الكنعاني [ القرى الفلسطينية المدمرة ]



كانت القرية، المبنية على تل رملي في السهل الساحلي الأوسط، تقع إلى الجنوب قليلاً من خط سكة حديد يافا - القدس، عند تقاطع الطريق العام الممتد بين يافا والرملة والطريق العام الساحلي الممتد جنوباً نحو غزة. ويعود تاريخ بيت دجن إلى عصر الكنعانيين، إذ إنها ذكرت في العهد القديم باسم بيت داجون. كما عرفت ببيت دجانا في عهد الملك الأشوري سنحاريب (705- 681 ق.م.). وقد سميت القرية كيباراداغون (Keparadagon) في عصر الرومان. وحل السامريون بالقرية في القرن الرابع، ومكثوا فيها حتى القرن العاشر على الأقل. وقد شيد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (724- 743م) فيها قصراً أعمدته من الرخام الأبيض. وبنى الصليبيون فيها قلعة- كزال ماين (Casal Maen)- هدمها صلاح الدين وأعاد بناءها ريتشارد قلب الأسد (Richard the lion- Heart) سنة 1191. في سنة 1596، كانت بيت دجن قرية في ناحية الرملة (لواء غزة)، وعدد سكانها 633 نسمة. وكانت تؤدي الضرائب على عدد من الغلال كالقمح والشعير والفاكهة والسمسم، بالإضافة إلى عناصر أخرى من الإنتاج والمستغلات كالماعز وخلايا النحل وكروم العنب.
في أواخر القرن التاسع عشر، كانت بيت دجن قرية متوسطة الحجم ومحاطة بأشجار الزيتون. وكانت المنازل في القرية الحديثة مبنية بالطوب أو بالحجارة والأسمنت، ومنتشرة في أرجاء الموقع من دون أن يتخذ شكل انتشارها نمطاً مخصوصاً. وكان سكانها في معظمهم من المسلمين؛ وبين ال 3840 عربياً، كان ثمة 130 مسيحياً. وكان في القرية مدرستان: الأولى للبنين والأخرى للبنات. وقد ضمت إلى مدرسة البنين، التي أسست في سنة 1920، مساحة 15 دونماً من الأرض لتدريب التلامذة على أصول الهندسة الزراعية، وكان فيها مكتبة احتوت على 600 كتاب. وكان يؤم تينك المدرستين 353 تلميذاً و 102 من التلميذات في سنة 1940. في 1944- 1945، كان ما مجموعه 7990 دونماً مخصصاً للحمضيات والموز، و 676 دونماً للحبوب، و 3195 دونماً مروياً أو مستخدماً للبساتين. وكانت بساتين الحمضيات تروى من آبار أرتوازية. كما كانت بقايا القلعة الصليبية المذكورة آنفاً لا تزال مرئية في سنة 1948.
حول احتلال القرية وتهجير سكانها، كانت القرية منذ كانون الثاني - يناير 1948 هدفاً لهجمات شنتها قوات البلماح المتمركزة في مبنى كيرين كاييمت ليسرائيل (الصندوق القومي اليهودي)، الكائن جنوبي طريق يافا - القدس العام مباشرة. وقد دمر منزل من منازل القرية في إحدى غارات البلماح. ولعل أوسع هجوم في تلك الفترة، بحسب المؤرخ الفلسطيني عارف العارف، هو ذاك الذي شنته قوة يهودية مسلحة بمدافع الهاون والرشاشات والقنابل اليدوية، فجر 26 شباط - فبراير، فقتل جراءه ثلاثة من سكان القرية وجرح أربعة ودمر أحد المنازل. وأفادت صحيفة "نيويورك تايمز" أن البريطانيين اشتبكوا مع سكان القرية يوم 19 شباط- فبراير، بعد أن توقفت إحدى قوافلهم العسكرية في القرية لاعتقال رجل كان يحمل بندقية. ويذكر مقال الصحيفة أن السكان صوبوا النيران على الجنود البريطانيين، وأن اثنين من السكان قتلا وجرح ثلاثة، كما قتل جندي بريطاني عندما "قفز من شاحنته حاملاً رشاشاً من نوع برن واندفع داخل القرية ونيران رشاشه تقدح"، بحسب تعبير مراسل "نيويورك تايمز".
وربما لم تحتل بيت دن إلا في نهاية نيسان - أبريل، إذ سقطت على يد لواء ألكسندروني في سياق تنفيذ عملية حميتس التي جرت بين 25 و 31 نيسان- أبريل، واستهدفت سلمة ويازور وقرى عربية أخرى تقع إلى الشرق من يافا.
كان من المقرر لعملية حميتس " الخميرة" أن تنفذ أثناء عيد الفصح اليهودي (أي عندما يكون أكل المآكل التي تدخل الخميرة فيها محرماً عند اليهود المتدينين). وكان هدفها المباشر الاستيلاء على القرى الفلسطينية الكبرى الواقعة على جانبي خط سكة الحديد الذي يصل يافا بعمقها العربي. وكانت القرى الواقعة إلى الشمال من خط سكة الحديد (من الغرب إلى الشرق) هي: سلمة والخيرية وساقية وكفر عانة والعباسية (اليهودية)؛ أما تلك التي كانت تقع إلى الجنوب من خط سكة الحديد فهي: يازور وبيت دجن والسافرية. وكان من شأن احتلال تلك القرى أن يعزل يافا- أكبر مدينة فلسطينية بسكانها السبعين ألفاً- عزلاً تاماً ويضمن سقوطها في يد الهاغاناه مثل "خوخة ناضجة". لذلك كان الهدف النهائي للعملية الاستيلاء على يافا من دون اللجوء إلى هجوم جبهي.
عقد الهجوم الجبهي، الذي شنته عصابة الإرغون في 25 نيسان- أبريل، تنفيذ عملية حميتس. وهدف هجوم الإرغون إلى عزل موقع حي المنشية الاستراتيجي، المتاخم لتل أبيب، عن باقي يافا. فإذا سقط حي المنشية تشن الإرغون هجوماً واسعاً على باقي يافا. وقد استلزم الهجوم على المنشية هجوماً من الشرق في اتجاه البحر غرباً، ورافقه قصف مكثف عشوائي لمناطق يافا السكنية والتجارية، نشر الذعر في صفوف المدنيين على نطاق واسع، وتسبب بنزوحهم براً وبحراً. وجوبه الهجوم على المنشية بمقاومة حازمة شديدة، ولم يحقق أهدافه إلا عند فجر 29 نيسان- أبريل، بعد مرور نحو ثمانين ساعة. في هذه الأثناء قرر البريطانيون، الذين كانوا متواطئين مع الهاغاناه خلال هجومها على حيفا (عملية مسباراييم، 22- 23 نيسان- أبريل)، التدخل في يافا ضد الإرغون. وفي الوقت نفسه قبلت الإرغون، التي استنزلها الهجوم وأنهكها، الانضواء تحت قيادة الهاغاناه فيما يتعلق بجبهة يافا.
في 29 نيسان- أبريل، شنت الهاغاناه عملية حميتس وانضوت الألوية الثلاثة كرياتي وألكسندروني وغفعاتي تحت قيادة دان إبشتاين، قائد لواء ألكسندروني. فهاجمت وحدات ألكسندروني، انطلاقاً من قاعدتها في كفار أزار، قريتي ساقية والخيرية واستولت عليهما. وانطلقت وحدات كرياتي من تل أبيب وهاجمت سلمة وضاحيتي أبو كبير وجباليا من ضواحي يافا. ومع حلول ليل اليوم ذاته، كانت سلمة قد سقطت في قبضة وحدات كرياتي وغفعاتي. لم يلق هجوم غفعاتي، الذي شن من مكفي يسرائيل جنوبي خط سكة الحديد، النجاح نفسه. إذ بينما نجح هذا اللواء في الاستيلاء على يازور في 29 نيسان- أبريل، أو بعيد ذلك، فإنه واجه صعوبات في تل الريش؛ وهو تل حصين بين يازور ويافا. فقد تمكن اللواء، أول الأمر، من اكتساح التل مستخدماً مدافع هيسبانو- سويزا التي وصلته حديثاً. لكن بعد أن شنت "كتيبة" من جيش الإنقاذ العربي، يقودها ميشال العيسى وقوامها 250 رجلاً جميعهم من الفلسطينيين، هجوماً مضاداً، اضطرت وحدات غفعاتي إلى الانسحاب من التل بعد أن تكبدت خسائر فادحة بلغت 33 بين قتيل ومفقود ونحو 100 جريح، بحسب ما جاء في "تاريخ الهاغاناه". وكان ميشال العيسى ورجاله قد وصولا إلى الموضع في اليوم السابق (28 نيسان- أبريل)، في مسعى لتخفيف الضغط المتصاعد عن يافا. وبقي العيسى في يافا حتى 10 أيار - مايو، محاولاً محاولة أخيرة يائسة الحؤول دون سقوط ضاحية أبو كبير، إحدى الضواحي الشمالية في يافا. ثم قرر في اليوم ذاته الانسحاب جراء تضييق الخناق الذي فرضته عملية حميتس.
ظهرت أولى بوادر الاستسلام من فلسطينيي يافا في 11 أيار - مايو. ثم استسلمت يافا رسمياً في 13 أيار - مايو، وغادر البريطانيون المنطقة في اليوم التالي. وكانوا يقومون، منذ بداية عملية حميتس، بمواكبة المدنيين المذعورين من يافا، على الطريق العام الرئيسي، على اللد والرملة اللتين كانتا يومها ملاذين آمنين. وكي يمنع البريطانيون الهاغاناه من إحكام الحصار على يافا، حافظا على بعض قوتهم في بعض أنحاء قرية يازور قريباً من الطريق . ويذكر "تاريخ الهاغاناه" أن "قوات الإيتسل قد عملت في أثناء ذلك بقيادة (الهاغاناه)، وأفادت العملية كثيراً بقصفها وسط يافا بمدافع الهاون بفعالية". ويبدو أن تضافر عدة عوامل، منها الهجوم على يافا (ولاسيما قصفها بمدافع الهاون)، ومنها مشهد فرار سكانها ذعراً، ومنها سقوط القرى التي تصل يافا بباقي أنحاء البلد، قد تفاعل كل منها مع الآخر (مثلما خطط لها أن تفعل) وتعاون على إحباط معنويات سكان يافا والقرى التي استهدفتها عملية حميتس أيضاً.
ويشير المؤرخ الإسرائيلي بني موريس إلى أن سكان بيت دجن أخلوا قريتهم في 25 نيسان- أبريل 1948 من جراء سقوط "مدينة مجاورة"؛ أي يافا. ويذكر المؤرخ الفلسطيني عارف العارف أن القرية احتلت في 30 نيسان- أبريل، ويضيف أن تفادي احتلالها كان ممكناً لو لم يوافق جيش الإنقاذ العربي على هدنة رعاها البريطانيون في المنطقة، بعد أن تعرضت تل أبيب لقصف شديد في 28 نيسان- أبريل. غير أن رواية لصحيفة "نيويورك تايمز" أفادت أن بيت دجن احتلت مع قرية القباب بعد أسبوعين من ذلك، إذ اندفعت القوات اليهودية تقاتل لإعادة فتح الطريق العام المؤدي إلى القدس. في أوائل حزيران- يونيو، شرع الصندوق القومي اليهودي في تدمير بيت دجن، فضلاً عن بضع قرى أخرى. وفي 16 حزيران- يونيو، دون رئيس الحكومة الإسرائيلية دافيد بن - غوريون، في يومياته أن عملية التدمير جارية في القرية على قدم وساق. ثم إن القرية اعتبرت، في أيلول - سبتمبر، موقعاً ملائماً لتوطين المهاجرين اليهود الجدد. ثمة أربع مستعمرات إسرائيلية على أراضي القرية اليوم: بيت دغان (134156)، وقد أنشئت في الموقع بعد ستة أشهر من احتلال بيت دجن في نيسان- أبريل 1948، مشمار هشفعا (133157)، التي بنيت في سنة 1949؛ حيميد (135158)، وقد بنيت في سنة 1950؛ غنّوت (133158)، وقد بنيت في سنة 1953.
بقيت بضعة منازل في موقع القرية اليوم، بعضها مهجور وبعضها الآخر تشغله أسر يهودية، أو يستخدم متاجر أو مستودعات أو مكاتب. ويبدو في هذه المنازل معالم معمارية متنوعة. أحد هذه المنازل الآهلة مبني بالأسمنت، وله شكل مستطيل وسقف مسطح ونوافذ أمامية مستطيلة ونافذتان مقنطرتان على جانبيه. وحول منزل آخر إلى كنيس إيلي كوهين، وهو مبني بالأسمنت وله سقف مسطح وباب ونافذة أماميان تعلوهما قنطرتان مستديرتان، وقد رسمت نجمة داود على بابه الأمامي وكذلك على باب آخر يبدو أنه باب مرآب. ولأحد المنازل المهجورة المبنية بالأسمنت سقف قرميدي هرمي الشكل متداع إلى السقوط. أما المنازل المهجورة الأخرى فمختومة، وتظهر وسط النباتات والأعشاب البرية. وينبت الصبار وأشجار السرو والتين والنخيل في أرجاء الموقع. ويزرع الإسرائيليون الأراضي المجاورة 1.
1 : وليد الخالدي وآخرون، كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها، ترجمة حسني زينة، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2001، ط3، ص690- 692.