جوهر الصقلي والبناء الأول للقاهرة [ القاهرة ]



جوهر الصقلي الذي شيد القاهرة هو القائد الفاطمي الذي لا يعرف سنة مولده على وجه الدقة، فيقال إنه ولد حوالي عام 918م، ورباه المعز لدين الله واختصه بين مواليه وجعله وزير ثم عينه قائداً لجيوشه في حملة أرسلها إلى تاهرت، وأخرى إلى فاس. نصبه المعز قائداً لحملة فتح مصر عام 969م، فاستولى على الإسكندرية ثم واصل زحفه إلى الجيزة فوقعت في يده، ودخل الفسطاط بعد عبور قواته نهر النيل، وتم عقد الصلح بين المصريين والفواطم. أسس جوهر مدينة القاهرة لتكون مقراً للفاطميين ومركزاً لنشر دعوتهم الدينية وشيد قصراً للخليفة الفاطمي وبنى الجامع الأزهر (970- 72) وأقيمت فيه الصلاة لأول مرة في 7 رمضان 361هـ (22 يونيو 972). تولى جوهر قيادة الجيش الفاطمي للقضاء على أفتكين والحسن زعيم القرامطة بالشام (976) ووطد سلطان الفواطم فيها. ثم عاد إلى مصر عام 979 حيث توفي ودفن بالقرافة الكبرى بالقاهرة.
فما هي جنسية القائد جوهر، الذي فتح مصر وأسس الأزهر؟ تكلم عن ذلك العلامة أحمد زكي باشا شيخ العروبة فقال: تضاربت الظنون، بسبب الوصف الذي أطلقه عليه كتاب العرب المتقدمون. لا مراء ولا جدال أن جزيرة صقلية كانت قد دخلت منذ زمان طويل في حوزة أمراء أفريقية ثم آلت من بعدهم إلى الفاطميين. في خلال ذلك الزمان، كان قد انتشر فيها الإسلام أيما انتشار، وازدهرت بربوعها العروبة أيما ازدهار.
فنبغ منها العلماء والفضلاء والكتاب والشعراء وأهل الوجاهة والرفاهة. وكلهم يعرف بالصقلي نسبة إليها. وقد جمع أسماءهم الكثيرة وتراجمهم الوافية أحد المستشرقين الطليان وهو العلامة أماري (Amari). من هذا الفريق كان القائد جوهر والدليل على ذلك أن وظيفته الأولى التي معروفاً بها طول حياته وبعد مماته، إنما هي "كتابة السر" ثم تولى قيادة الجيش، وقد أوغل في فتوحاته حتى انتهى إلى المحيط الأطلنطي. ولما كان الرجل منسوباً إلى صقلية وكانت صقلية من البلاد الخاضعة لدولة الروم في القسطنطينية فقد نسبوه إلى هذه الدولة، وقالوا إنه "الرومي" كما كان الأتراك إلى الأمس القريب ينسبون قضاتهم وأشياخهم ورؤساء الدين منهم إلى الروم، بسبب أن الترك فتحوا بلاد الروم. فصاروا ينتسبون وينسبون إليها فيقولون إنهم "أروام" ويقولون فلان "الرومي"، والأمثال تعد بمئات المئات.
كان جوهر قائداً مدرباً وسياسياً محنكاً، والدليل على ذلك أنه لم يلجأ إلى وسائل الشدة والعنف في نشر المذهب الفاطمي، وإنما اتبع الوسائل السلمية فاعتمد على المسجد الذي اتخذه أشبه بمدرسة يتلقى فيه الأهالي تعاليم هذا المذهب، دون أن يفرض على أحد اعتناقه، فقد أنشأ الجامع الأزهر ليكون مركزاً لتعليم المذهب الفاطمي حتى لا يضايق المصريين السنيين في شعوره الديني في المساجد الأخرى.. وهذا التسامح لم يصرف جوهراً عن الغرض الأول من سياسة الفواطم، وهو تعميم مذهبهم بين المصريين وغيرهم، فقد لجأ في جذبهم إليه إلى الوسائل المادية، وذلك بإسناد مناصب الدولة الهامة إلى معتنقي هذا المذهب، مصريين كانوا أو مغاربة.
هذه لمحة قصيرة عن بناء القاهرة.. القائد جوهر رحمة الله عليه. أنجب "حسين" الذي خلع عليه الخليفة العزيز بالله بعد وفاة جوهر، وجعله في رتبة أبيه ولقبه بالقائد بن القائد، ولم يتعرض لشيء مما تركه جوهر.
فلما مات العزيز وقام من بعده ابنه الحاكم بأمر الله استدناه ثم إنه قلده البريد والإنشاء في شوال سنة ست وثمانين وثلثمائة وخلع عليه، ثم بعد أمور وقعت له، قبض عليه وقتل وصودرت ضياعه ودوره!! 1.
1 : عبد الرحمن زكي، بناة القاهرة في ألف عام، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، ص 8- 11.