الفسطاط [
القاهرة ]
الفسطاط: لما فتح العرب (18هـ?هـ-369م)، كانت عاصة البلاد -الإسكندرية- ففكر عمرو بن العاص في أن يتخذها قاعدة، إلا أن عمر ابن الخطاب لم يوافقه على ذلك، بل أمره بإنشاء مدينة جديدة.
فلما عاد عمرو من فتح الإسكندرية، قصد المكان الفسيح الذي يقع شمال حصن بابليون حيث عسكرت قوات العرب حين قدومها، وأمر بتأسيس الفسطاط ليجعلها قاعدة البلاد، واختط عمرو الجامع العتيق، ثم اختطت القبائل العربية من حوله: وكان عمرو قد ولى على التخطيط أربعة من المسلمين للفصل بين القبائل في تنظيم خطة كل منها، وهم معاوية بن خديج التجيبي، وشريك بن سمي الغطيفي، وعمرو بن قحزم الخوراني، وجبريل بن ناشرة المعافري.
ذكر البلاذري أن الزبير هو الذي اختط الفسطاط واتخذ لنفسه دارا، وجعل فيها السلم الذي صعد إليه إلى سور حصن بابليون، وبقي فيها ذلك السلم حتى احترق في حريق شاور. ويصف ابن عبد الحكم في نهاية كتابه فتوح مصر خطط الفسطاط الأولى، ويبين كثيراً من مواضع الدور والأمكنة التي بناها رؤساء الجند والزعماء": وقد حدد المقريزي موقع الفسطاط في خططه فقال:
اعلم أن موضع الفسطاط الذي يقال له اليوم مدينة مصر، كان فضاء ومزارع فيما بين النيل والجبل الشرقي الذي يعرف بجبل المقطم، ليس فيه من البناء والعمارة سوى حصن يعرف اليوم بعضه بقصر الشمع وبالمعلقة، ينزل به شحنة الروم المتولي على مصر من قبل القياصرة ملوك الروم عند سيره من الإسكندرية، ويقيم فيها ما يشاء، ثم يعود على دار الإمارة.
وتاريخ إنشاء الفسطاط مختلف فيه. فالبلاذري يقول إنه كان بعد فتح بابليون في حين أن أكثر المؤرخين يجعله بعد فتح الإسكندرية، كما ذكرنا. ومن المحتمل أن يكون بناء المدينة قد بدأ بعد صلح الإسكندرية، وإنها زادت فيما بعد حتى صارت مدينة، وعاصمة ذات شأن كبير، ثم نمت نمواً سريعاً بعد عام واحد من إنشائها. وقد قال المؤرخ أبو المحاسن إن " عمرو بنى الفسطاط في سنة 21هـ بعد فتح الإسكندرية".
ومما زاد في مكانة الفسطاط أنه كانت تصل بابليون والبحر الأحمر عند القلزم (السويس) قناة قديمة أسمها (امينس تراجافوس) وكانت تمر بمدينة بلبيس وبحيرة التمساح، لكنها أهملت في وقت ما، فأعاد حفرها عمرو بن العاص، وعادت لها أهميتها القديمة، فكانت ترسل بوساطتها الغلال إلى بلاد العرب، وسهلت بذلك المواصلات بين خليفة المؤمنين وواليه في مصر.
ولما انتهى عمر بن العاص من بناء الفسطاط، أنشأ الجامع العتيق، أقدم المساجد في مصر، وأول نواة للعمارة الإسلامية فيها. وقد اختار عمر موضع بنائه في المكان الذي كان فيه لواؤه، وقد عرف باسم مسجد أهل الرابة، وهم نخبة من الجند الأنصار والمهاجرين، كانوا يؤلفون نواة للجيش، وتلتف حولهم كل قبيلة برايتها.
وفي الجهة البحرية من الجامع، شيد عمرو داراً له، وأخرى غربية لابنه عبد الله، عرفت بالدار الصغرى تمييزاً لها عن دار بيته التي عرفت بالدار الكبرى كذلك بنى الزبير بن العوام داراً بجوار دار عبد الله.
ولما رسخت أقدام المسلمين في مصر، اتسعت وزادت عمارة الفسطاط، وفاقت البصرة والكوفة، ويبلغ امتدادها على ضفة النيل ثلاثة أميال، كما ذكر ذلك ابن حوقل الجغرافي في أواخر القرن العاشر. وقال القضاعي المؤرخ عن مقدار عمارتها أنه كان في الفسطاط 36000 مسجداً و 8000 شارع مسلوك و 1700 حمام. ونقول وإن كان في هذه الأرقام مبالغة واضحة، فلا شك أن الفسطاط قد بلغت درجة كبيرة من العمران. ثم ارتقت الفسطاط في أيام الخلفاء الأمويين، وصارت مقراً لولاتهم. وشيد فيها عبد العزيز بن مروان أمير مصر من قبل أخيه الخليفة عبد الملك داراً للإمارة، عرفت بدار عبد العزيز كانت مطلة على النيل، بلغ من سعتها وكثرة ساكنيها أنهم كانوا يصبون فيها أربعمائة راوية ماء كل يوم. وقد علت هذه الدار قبة مذهبة، شأن الأمويين في تفخيم بناياتهم حتى تبز المباني البيزنطية التي خلفها الروم وراءهم في الأقطار التي انتزعها العرب منهم. ولعل دار الإمارة تلك، كانت أول بناية إسلامية كبيرة في مصر وصل إلينا نبأ زخرفتها.
مرت على الفسطاط كما قلنا، مراحل عديدة.. "فكانت في زمن من الأزمان نحو ثلث بغداد ومقدارها نحو فرسخ، علت غاية العمارة والطيبة واللذة ذات رحاب في محالها وأسواق عظام ومتاجر فخام، ولها ظاهر أنيق وبساتين. ولما زار الفسطاط ابن سعيد المغربي، كانت قد تغيرت أحوالها، وانقلبت محاسنها إلى أضدادها، فقال فيما دونه. ولما أقبلت الفسطاط، أدبرت عني المسرة، وقامت أسواراً مثلمة سوداء وآفاقا مغبرة، ودخلت من بابها، وهو دون مغلق على خراب معمور بمبان سيئة الوضع غير مستقيمة الشوارع، قد بنيت من الطوب الأدكن والقصب والنخيل طبقة فوق طبقة وحول أبوابها من التراب الأسود والأذبال ما يقبض نفس النظيف ويغص طرف الطريف". ومنذ تأسست الفسطاط إلى أن بنى العسكر، وليها تسعة وعشرون أميراً لمدة مائة وثلاثة عشر سنة وسبعة أشهر، أولها يوم الجمعة مستهل المحرم سنة عشرين من الهجرة، لما وليها القائد عمرو. وكان آخر أمرائها صالح بن علي بن عبد الله من قبل أمير المؤمنين أبي العباس بن محمد السفاح، ومن بعده سكن أمراء مصر العسكر، وكان أولهم أبو عون عبد الملك.
حدث للفسطاط في أثناء وجودها تطوران كبيران، هما قيام "العسكر" ثم " القطائع". فإن المرحلة النهائية للفسطاط جاءت عقب ذلك في مناسبتين، كانت الأولى في أيام الشدة العظمى في أثناء خلافة المستنصر بالله الفاطمي. وكانت الثانية حريق مصر في وزارة شاور في أثناء خلافة العاضد. أما المناسبة الأولى، فكانت حينما تمرد الجند، وساد الاضطراب وحلت بالبلاد المجاعة، ولجأ المستنصر بالله إلى حاكم الشام بدر الجمالي. فكتب إليه سراً يستقدمه إلى مصر لتدبير الأحوال. فلما قدم الأمير بدر اهتم بتحسين القاهرة، وعمل على إهمال الفسطاط. فقد أباح للجند وللقادرين على البناء، أن يعمروا ما شاءوا في القاهرة وغيرها. فعمرت وسكنها الناس، ولم يبقوا شيئاً في الفسطاط أو العسكر أو القطائع وتركوا موقعها موحشاً مقفراً.
وكانت الحادثة الثانية، حريق الفسطاط الهائل، الذي أمر بإضرامه شاور عام 565هـ-1169. حينما غزا عموري ملك بيت المقدس الديار المصرية، لما عجز عن الدفاع عنها، وأراد أن يتجنب سقوطها في أيدي الصليبيين. فقد أمر شاور بإخلاء الفسطاط وحرقها، ويقول المقريزي: " بعث شاور إلى مصر بعشرين ألف قارورة نفط وعشرة آلاف مشعل نار، فرقت فيها فارتفع لهيب النار ودخان الحريق إلى السماء فصار منظراً مهولا. واستمرت النار تأتي على مساكن مصر من اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر لتمام أربعة وخمسين يوماً.
ومن ثم تحولت مصر الفسطاط إلى الأطلال المعروفة بكيمان مصر... فلما حدث الحريق رحل عموري من بركة الحبش، ونزل بظاهر القاهرة، مما يلي باب البرقية، وقاتل أهلها قتالاً عنيفاً".
ولما جاء صلاح الدين الأيوبي لمصر، أراد أن يجمع بين القاهرة وما بقي من الفسطاط بسور واحد، فانتقل النشاط التجاري إلى ساحل النيل حيث كانت ترسو السفن وتكثر المخازن والمصانع.
ترك لنا القلقشندي المحن التي نزلت بالفسطاط فقال: " ولم يزل الفسطاط زاهي البنيان نامي السكان إلى أن كانت دولة الفاطميين بالديار المصرية، وعمرت القاهرة، فتقهقر حاله وتناقص. وأخذ سكانه في الانتقال إلى القاهرة وما حولها، فخلا من أكثر سكانه، وتتابع الخراب في بنيانه إلى أن بلغ الفرنج على أطراف الديار في أيام العاضد آخر الخلفاء الفاطميين". ثم قال القلقشندي في موضع آخر: " وبعد حريق شاور تزايد الخراب فيه، وكثر الخلو، ولم يزل الأمر على ذلك في تقهقر أمره إلى أن كانت دولة الظاهر بيبرس، فصرف الناس همتهم إلى هدم ما خلا من أخطاطه وعفا رسمها، واضمحل ما بقي منها وتغيرت معالمها".
وعلى هذه الحال ، تحولت الميناء النهرية والعاصمة الإسلامية الأولى إلى كيمان من التراب وتلال من الأنقاض حتى أتاح الله للفسطاط العالم الأثري الجليل المرحوم علي بك بهجت. فكشف فيما بين عامي 1912-1913 أجزاء كبيرة من تلك المدينة البائدة التي لم يتخلف من بقاياها إلا جامع عمرو وأبراج قصر الشمع .